"البيان في قراءة الجنب للقرآن"
تحريم قراءة الجنب للقرآن
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقد اختلف الفقهاء في حكم قراءة القرآن للجنب، فالأئمة الأربعة لا يُجوّزون للجنب قراءة القرآن.
قال ابن تيمية "فإن الأئمة الأربعة متفقون على منعه من ذلك -أي من القراءة-" [مجموع الفتاوى]
وقال الكاساني رحمه الله : " وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ " [بدائع الصنائع]
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلِمَةَ قَالَ : أَتَيْتُ عَلِيًّا أَنَا وَرَجُلَانِ ، فَقَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ الْخَلَاءِ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، وَيَأْكُلُ مَعَنَا اللَّحْمَ ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ عَنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ -أي : غير الجنابة - ) وفي لفظ" لَا يَحْجُزُهُ عَنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةُ"
رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
الحديث أيضًا أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبزار، والدارقطني، والبيهقي، وصححه ابن حبان وابن السكن وعبد الحق والبغوي في شرح السنة.
وقال ابن خزيمة: هذا الحديث ثلث رأس مالي.
وقال شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه.
قال الشافعي: أهل الحديث لا يثبتونه. قال البيهقي: إنما قال ذلك لأن عبد اللَّه بن سلمة راويه كان قد تغير وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر قاله شعبة.
وقال الخطابي: كان أحمد يوهن هذا الحديث.
وقال النووي: خالف الترمذي الأكثرون فضعفوا هذا الحديث وقد قدمنا من صححه مع الترمذي.
وحكى البخاري عن عمرو بن مرة الراوي لهذا الحديث عنه أنه قال:
كان عبد اللَّه بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر.
قال الشوكاني : والحديث يدل على أن الجنب لا يقرأ القرآن وقد ذهب إلى تحريم قراءة القرآن على الجنب القاسم والهادي والشافعي من غير فرق بين الآية وما دونها وما فوقها.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز له قراءة دون آية إذ ليس بقرآن.
وقال المؤيد باللَّه والإمام يحيى وبعض أصحاب أبي حنيفة: يجوز ما فعل لغير التلاوة كـيا مريم اقنتي لا لقصد التلاوة. [نيل الأوطار]
وقال ابن حجر : واستدل الجمهور على المنع بحديث علي " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن القرآن شيء، ليس الجنابة " رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان، وضعف بعضهم بعض رواته، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة. [فتح الباري]
وقال ابن عثيمين -رحمه الله- : الجنب لا يحل له أن يقرأ شيئا من القرآن، والفرق بينه وبين الحائض أن الحائض تطول مدتها في حيضتها ولا يمكنها أن تتطهر منها، بخلاف الجنب؛ فإن الجنب يمكنه أن يتطهر في ساعته؛ فلهذا يمنع من قراءة القرآن حتى يغتسل. [مجموع فتاوى ابن عثيمين]
ويجوز له قول ما وافق قرآنا؛ كالبسملة، والحمدلة، ونحوهما، ما لم يقصد القرآن، فإن قصده، حرم.
وكره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للجنب ان يقرأ شيئاً من القرآن.
وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء "لا يمس القرآن إلا طاهر وأما قراءته غيباً فيجوز ممن ليس عليه حدث أكبر، فالجنب- مثلا- لا يقرأ القرآن لا غيباً ولا نظراً. وبالله التوفيق"
وقال الإمام ابن باز -رحمه الله- : الجنب صاحب الحدث الأكبر لا يقرأ؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يحجبه شيء عن القراءة إلا الجنابة، وروى أحمد بإسناد جيد عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الغائط وقرأ شيئا من القرآن وقال: «هذا لمن ليس بجنب أما الجنب فلا ولا آية » .
والمقصود أن ذا الجنابة لا يقرأ لا من المصحف ولا عن ظهر قلب حتى يغتسل. [فتاوى ابن باز]
وقال النووي : يحرم على الجنب ما يحرم على المحدث وشيئآن قراءة القرآن واللبث في المسجد فأما القرآن فيحرم وإن كان بعض آية على قصد التلاوة. [روضة الطالبين]
وقال عبدالله البسام : تحريم قراءة القرآن الكريم على الجنب، ويدخل فيه كل من عليه حدث أكبر، وربما كان الحديث ليس صريحا في التحريم، إلا أن الذي يؤيد التحريم ما رواه علي قال: "قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب" [توضيح الأحكام]
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ ، كَانَ يَقُولُ : ( لا يَسْجُدُ الرَّجُلُ -أي سجدة التلاوة -، وَلا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، إِلا وَهُوَ طَاهِرٌ )
فقد حمله بعض العلماء على أن المراد به الطهارة الكبرى ، وهي الطهارة من الجنابة ، لأن ابن عمر كان يرى جواز سجود التلاوة بدون وضوء.
وعَنْ سَلْمَانَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ أَحْدَثَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَتَقْرَأُ وَقَدْ أَحْدَثْتَ ؟ قَالَ : " نَعَمْ , إِنِّي لَسْتُ بِجُنُبٍ " رواه الطحاوي
قال أبو الحسن الماوردي : " تَحْرِيمَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ قَدْ كَانَ مَشْهُورًا فِي الصَّحَابَةِ مُنْتَشِرًا عِنْدَ الْكَافَّةِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَى رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ "
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله : " والاعتماد في المنع على ما روي عن الصحابة "
القول بجواز قراءة الجنب للقرآن
وذهب بعض العلماء إلى جواز قراءة القرآن للجنب ، وهو مذهب الظاهرية.
قال ابن عبد البر رحمه الله : " وَقَدْ شَذَّ دَاوُدُ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِإِجَازَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْجُنُبِ" [الاستذكار]
ومما استدلوا به على الجواز : حديث عائشة رضي الله عنها : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ ) رواه مسلم.
قالوا : هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه ، ومنها حال الجنابة ، والذكر يشمل القرآن ، فلا فرق بين القرآن وبين سائر الأذكار .
وأجيب عنه بأنه مطلق قيدته الأحاديث الواردة بتحريم القراءة للجنب.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله : " وفيه دليل على أن الذكر لا يمنع منهُ حدث ولا جنابة ، وليس فيهِ دليل على جواز قراءة القرآن للجنب ؛ لأن ذكر الله إذا أطلق لا يراد بهِ القرآن "
وقال ابن حبان رحمه الله : " وقد توهم غير المتبحِّر في الحديث أنّ حديث عائشة : ( كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الله على كل أحيانه ) يعارض هذا ، وليس كذلك ؛ لأنها أرادت الذكر الذي هو غير القرآن ، إذ القرآن يجوز أن يُسمى ذكرا ، وكان لا يقرأ وهو جنب ويقرأ في سائر الأحوال " انتهى
وقال الماوردي رحمه الله : " وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْأَذْكَارِ الَّتِي لَيْسَتْ قُرْآنًا " انتهى
وأما حديث " ابن عباس " مرفوعا «لو أن أحدكم إذا أتى أهله فقال بسم الله» الحديث، فلا دلالة فيه على جواز القراءة للجنب،؛ لأنه يأتي بهذا اللفظ غير قاصد للتلاوة، ولأنه قبل غشيانه أهله، وكينونته جنباً.
واستدلوا أيضاً بقصة هرقل عندما كتب إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي الكتاب بعض من آيات القرآن، والجواب على ذلك بأن ذلك للضرورة والحاجة كما لو قرأ بعض آية في الفقه ليس قاصداً التلاوة، وبأنها واقعة عين لا عموم.
الخلاصة
نستنتج مما سبق أن مذهب أكثر العلماء والفقهاء من السلف والخلف على تحريم القراءة للجنب إلا ما كان منها غير قاصداً التلاوة.
والله أعلم
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقك هنا